فصل: مقدمة الكتاب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)




.مقدمة الكتاب:

بسم الله الرحمن الرحيم.
نسأل الله ربنا أن يبلغ بنا من الحمد ما هو أهله، وأن يعلمنا من البيان ما يقصر عنه مزية الفضل وأصله، وحكمة الخطاب وفضله، ونرغب إليه أن يوفقنا للصلاة على نبينا ومولانا محمد رسوله الذي هو أفصح من نطق بالضاد ونسخ هديه شريعة كل هاد وعلى آله وصحبه الذي منهم من سبق وبدر، ومنهم من صابر وصبر، ومنهم من آوى ونصر.
وبعد فإن علم البيان لتأليف النظم والنثر بمنزلة أصول الفقه للأحكام وأدلة الأحكام، وقد ألف الناس فيه كتبا، وجلبوا ذهبا وحطبا وما من تأليف إلا وقد تصفحت شينه وسينه، وعلمت غثه وسمينه، فلم أجد ما ينتفع به في ذلك إلا كتاب الموازنة لأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي، وكتاب سر الفصاحة لأبي محمد عبد الله بن سنان الخفاجي، غير أن كتاب الموازنة أجمع أصولا، وأجدى محصولا، وكتاب سر الفصاحة وإن نبه فيه على نكت منيرة فإنه قد أكثر مما قل به مقدرا كتابه، من ذكر الأصوات والحروف والكلام عليها ومن الكلام على اللفظة المفردة وصفاتها مما لا حاجة إلى أكثره ومن الكلام في مواضع شذ عنه الصواب فيها، وسيرد بيان ذلك كله في مواضع من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى على أن كلا الكتابين قد أهملا من هذا العلم أبوابا، ولربما ذكرا في بعض المواضع قشورا وتركا لبابا، وكنت عثرت على ضروب كثيرة منه في غضون القرآن الكريم، ولم أجد أحدا ممن تقدمني تعرض لذكر شيء منها، وهي إذا عدت كانت في هذا العلم بمقدار شطره، وإذا نظر إلى فوائدها وجدت محتوية عليه بأسره، وقد أوردتها هاهنا، وشفعتها بضروب أخر مدونة في الكتب المتقدمة، بعد أن حذفت منها ما حذفته، وأضفت إليها ما أضفته، وهداني الله لابتداع أشياء لم تكن من قبلي مبتدعة، ومنحني درجة الاجتهاد التي لا تكون أقوالها تابعة وإنما هي متبعة، وكل ذلك يظهر عند الوقوف على كتابي هذا وعلى غيره من الكتب.
وقد بنيته على مقدمة ومقالتين، فالمقدمة تشتمل على أصول علم البيان، ولا أدعي فيما ألفته من ذلك فضيلة الإحسان، ولا السلامة من سلق اللسان، فإن الفاضل من تعد سقطاته، وتحصى غلطاته.
ويسيء بالإحسان ظنا لا كمن ** هو بابنه وبشعره مقتون

وإذا تركت الهوى قلت: إن هذا الكتاب بديع في إغرابه، وليس له صاحب في الكتب فيقال: إنه من أخدانه أو من أترابه، مفرد بين أصحابه، ومع هذا فإني أتيت بظاهر هذا العلم دون خافيه، وحمت حول حماه ولم أقع فيه، إذ الغرض إنما هو الحصول على تعليم الكلم التي بها تنظم العقود وترصع، وتخلب العقول فتخدع، وذلك شيء تحيل عليه الخواطر، لا تنطق به الدفاتر.
واعلم أيها الناظر في كتابي أن مدار علم البيان على حاكم الذوق السليم، الذي هو أنفع من ذوق التعليم، وهذا الكتاب وإن كان فيما يلقيه إليك أستاذا، وإذا سألت عما ينتفع به في فنه قيل لك هذا فإن الدربة والإدمان أجدى عليك نفعا، وأهدى بصراً وسمعاً، وهما يريانك الخبر عيانا، ويجعلان عسرك من القول إمكانا، وكل جارحة منك قلبا ولسانا، فخذ من هذا الكتاب ما أعطاك واستنبط بإدمانك ما أخطاك، وما مثلي فيما مهدته لك من هذه الطريق إلا كمن طبع سيفا ووضعه في يمينك لتقاتل به، وليس عليه أن يخلق لك قلبا، فإن حمل النصال، غير مباشرة القتال.
وإنما يبلغ الإنسان غايته ** ما كل ماشية بالرحل شملال

ولنرجع إلى ما نحن بصدده فنقول: أما مقدمة الكتاب، فإنها تشتمل على عشرة فصول:

.الفصل الأول: في موضوع علم البيان:

موضوع كل علم: هو الشيء الذي يسأل فيه عن أحواله التي تعرض لذاته، فموضوع الفقه هو أفعال المكلفين، والفقيه يسأل عن أحوالها التي تعرض لها: من الفرض والنفل والحلال والحرام والندب والمباح، وغير ذلك، وموضوع الطب هو بدن الإنسان، والطبيب يسأل عن أحواله التي تعرض له من صحته وسقمه، وموضوع الحساب هو الأعداد، والحاسب يسأل عن أحوالها التي تعرض لها من الضرب والقسمة والنسبة، وغير ذلك، وموضوع النحو هو الألفاظ والمعاني، والنحوي يسأل عن أحوالهما في الدلالة من جهة الأوضاع اللغوية وكذلك يجري الحكم في كل علم من العلوم وبهذا الضابط انفرد كل علم برأسه ولم يختلط بغيره وعلى هذا فموضوع علم البيان هو الفصاحة والبلاغة وصاحبه يسأل عن أحوالهما اللفظية والمعنوية وهو والنحوي يشتركان في أن النحوي ينظر في دلالة الألفاظ على المعاني من الوضع اللغوي، وتلك دلالة عامة، وصاحب علم البيان ينظر في فضيلة تلك الدلالة، وهي دلالة خاصة، والمراد بها أن يكون على هيئة مخصومة من الحسن، وذلك أمر وراء النحو والأعراب، ألا ترى أن النحوي يفهم معنى الكلام المنظوم والمنثور ويعلم مواقع إعرابه، ومع ذلك فإنه لا يفهم ما فيه من الفصاحة والبلاغة، ومن هاهنا غلط مفسر الأشعار في اقتصارهم على شرح المعنى وفيها من الكلمات اللغوية، وتبين مواضع الإعراب منها، دون شرح ما تضمنه من أسرار الفصاحة والبلاغة.

.الفصل الثاني: في آلات علم البيان وأدواته:

اعلم أن صناعة تأليف الكلام من المنظوم والمنثور تفتقر إلى آلات كثيرة، وقد قيل: ينبغي للكاتب أن يتعلق بكل علم، حتى قيل: كل ذي علم يسوغ له أن ينسب نفسه إليه فيقول: فلان النحوي وقلان الفقيه وفلان المتكلم ولايسوغ له أن ينسب نفسه إلى الكتابة فيقول: فلان الكاتب، وذلك لما يفتقر إليه من الخوض في كل فن.
وملاك هذا كله الطبع؛ فإنه إذا لم يكن ثم طبع فإنه لا تغني تلك الآلات شيئاً؛ ومثال ذلك كمثل النار الكامنة في الزناد والحديدة التي يقدح بها؛ ألا ترى أنه إذا لم يكن في الزناد نار لا تفيد تلك الحديدة شيئاً؟.
وكثيراً ما رأينا وسمعنا من غرائب الطباع في تعلم العلوم، حتى إن بعض الناس يكون له نفاذ في تعلم علم مشكل المسلك صعب المأخذ، فإذا كلف تعلم ما هو دونه من سهل العلوم نكص على عقبتيه، ولم يكن فيه نفاذ.
وأغرب من ذلك أن صاحب الطبع في المنظوم يجيد في المديح دون الهجاء، أو في الهجاء دون المديح، أو يجيد في المراثي دون التهاني، أو في التهاني دون المراثي، وكذلك صاحب الطبع في المنثور؛ هذا ابن الحريري صاحب المقامات؛ قد كان على ما ظهر عنه من تنميق المقامات واحداً في فنه، فلما حضر ببغداد ووقف على مقاماته قيل: هذا يستصلح لكتابة الإنشاء في ديوان الخلافة، ويحسن أثره فيه، فأحضر، وكلف كتابة كتاب، فأفحم، ولم يجر لسانه في طويلة ولا قصيرة، فقال فيه بعضهم:
شيخ لنا من ربيعة الفرس ** ينتف عثنونه من الهوس

أنطقه الله بالمشان وقد ** ألجمه في بغداد بالخرس

وهذا مما يعجب منه.
وسئلت عن ذلك فقلت: لا عجب؛ لأن المقامات مدراها جميعها على حكاية تخرج إلى مخلص. وأما المكاتبات فإنها بحر لا ساحل له؛ لأن المعاني تتجدد فيها بتجدد حوادث الأيام، وهي متجددة على عدد الأنفاس، ألا ترى أنه إذا خطب الكاتب المفلق عن دولة من الدول الواسعة التي يكون لسلطانها سيف مشهور، وسعي مذكور، ومكث على ذلك برهة يسيرة لا تبلغ عشر سنين، فإنه يدون عنه من المكاتبات ما يزيد على عشرة أجزاء، كل جزء منها أكبر من مقامات الحريري حجماً؛ لأنه إذا كتب في كل يوم كتاباً واحداً اجتمع من كتبه أكثر من هذه العدة المشار إليها وإذا نخلت وغربلت واختير الأجود منها إذ تكون كلها جيدة فيخلص منها النصف، وهو خمسة أجزاء، والله يعلم ما اشتملت عليه من الغرائب والعجائب، وما حصل في ضمنها من المعاني المبتدعة، على أن الحريري قد كتب في أثناء مقاماته رقاعاً في مواضع عدة، فجاء بها منحطة عن كلامه في حكاية المقامات، لا، بل جاء بالغث البارد الذي لا نسبة له إلى باقي كلامه فيها وله أيضاً كتابة أشياء خارجة عن المقامات، وإذا وقف عليها أقسم أن قائل هذه ليس قائل هذه، لما بينهما من التفاوت البعيد.
وبلغني عن الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد بن الخشاب النحوي رحمه الله أنه كان يقول ابن الحريري رجل مقامات: أي أنه لم يحسن من الكلام المنثور سواها، وإن أتى بغيرها لا يقول شيئا.
فانظر أيها المتأمل إلى هذا التفاوت في الصناعة الواحدة من الكلام المنثور، ومن أجل ذلك قيل: شيئان لا نهاية لهما: البيان، والجمال.
وعلى هذا فإذا ركب الله تعالى في الإنسان طبعا قابلا لهذا الفن فيفتقر حينئذ إلى ثمانية أنواع من الآلات.
النوع الثاني: معرفة علم العربية من النحو والتصريف:
النوع الثاني: معرفة ما يحتاج إليه من اللغة، وهو المتداول المألوف استعماله في فصيح الكلام غير الوحشي الغريب ولا المستكره المعيب.
النوع الثالث: معرفة أمثال العرب وأيامهم، ومعرفة الوقائع التي جاءت في حوادث خاصة بأقوام، فإن ذلك جرى مجرى الأمثال أيضا.
النوع الرابع: الاطلاع على تأليفات من تقدمه من أرباب هذه الصناعة المنظومة منه والمنثورة، والتحفظ للكثير منه.
النوع الخامس: معرفة الأحكام السلطانية الإمامة، والإمارة والقضاء، والحسبة وغير ذلك.
النوع السادس: حفظ القرآن الكريم والتدرب باستعماله وإدراجه في مطاوي الكلام.
النوع السابع: حفظ ما يحتاج إليه من الأخبار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم والسلوك بها مسلك القرآن الكريم في الاستعمال.
النوع الثامن: وهو مختص بالناظم دون الناثر، وذلك علم العروض والقوافي الذي يقام به ميزان الشعر.
ولنذكر بعد ذلك فائدة كل نوع من هذه الأنواع، ليعلم أن معرفته مما تمس الحاجة إليه فنقول:

.النوع الأول: معرفة علم العربية من النحو والتصريف:

أما علم النحو فإنه في علم البيان من المنظوم والمنثور بمنزلة أبجد في تعليم الخط وهو أول ما ينبغي إتقان معرفته لكل أحد ينطق باللسان العربي، ليأمن معرة اللحن، ومع هذا فإنه وإن احتيج إليه في بعض الكلام دون بعض لضرورة الإفهام، فإن الواضع لم يخص منه شيئا بالوضع، بل جعل الوضع عاما، وإلا فإذا نظرنا إلى ضرورته وأقسامه المدونة وجدنا أكثرها غير محتاج إليه في إفهام المعاني، ألا ترى أنك لو أمرت رجلا بالقيام فقلت له: قوم، بإثبات الواو ولم تجزم لما اختل من فهم ذلك شيء، وكذلك الشرط لو قلت: إن تقوم أقوم، ولم تجزم لكان المعنى مفهوما، والفضلات كلها تجري هذا المجرى، كالحال والتمييز والاستثناء، فإذا قلت: جاء زيد راكب، وما في السماء قدر راحة سحاب، وقام القوم إلا زيد، فلزمت السكون في ذلك كله، ولم تبين إعرابا، لما توقف الفهم على نصب الراكب والسحاب، ولا على نصب زيد، وهكذا يقال في المجرورات، وفي المفعول فيه، والمفعول له، والمفعول معه، وفي المبتدأ والخبر، وغير ذلك من أقسام أخر لا حاجة إلى ذكرها.
لكن قد خرج عن هذه الأمثلة ما لا يفهم إلا بقيود تقيده، وإنما يقع ذلك في الذي تدل صيغته الواحدة على معان مختلفة، ولنضرب لذلك مثالا يوضحه فنقول: اعلم أن من أقسام الفاعل والمفعول ما لا يفهم إلا بعلامة كتقديم المفعول على الفاعل فإنه إذا لم يكن ثم علامة تبين أحدهما من الآخر وإلا أشكل الأمر كقولك: ضرب زيد عمرو، ويكون زيد هو المضروب، فإنك إذا لم تنصب زيداً وترفع عمراً، وإلا لا يفهم ما أردت، وعلى هذا ورد قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} وكذلك لو قال قائل: ما أحسن زيد، ولم يبين الإعراب في ذلك، لما علمنا غرضه منه، إذ يحتمل أن يريد به التعجب من حسنه، أو يريد به الاستفهام عن أي شيء منه أحسن، ويحتمل أن يريد به الإخبار بنفي الإحسان عنه، ولو بين الإعراب في ذلك فقال: ما أحسن زيداً وما أحسن زيدٍ، وما أحسن زيدٌ، علمنا غرضه وفهمنا مغزى كلامه لانفراد كل قسم من هذه الأقسام الثلاثة بما يعرف به من الإعراب، فوجب حينئذ بذلك معرفة النحو، إذ كان ضابطا لمعاني الكلام، حافظا لها من الاختلاف.
وأول من تكلم في النحو أبو الأسود الدؤلي، وسبب ذلك أنه دخل على ابنة له بالبصرة فقالت له: يا أبت ما أشد الحر، متعجبة، ورفعت أشد، فظنها مستفهمة فقال: شهر ناجر، فقالت: يا أبت إنما أخبرتك ولم أسألك فأتى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين ذهبت لغة العرب، ويوشك إن تطاول عليها زمان أن تضمحل فقال له: وما ذاك؟ فأخبره خبر ابنته، فقال: هلم صحيفة، ثم أملى عليه الكلام لا يخرج عن اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ثم رسم له رسوما فنقلها النحويون في كتبهم.
وقيل إن أبا الأسود دخل على زياد ابن أبيه بالبصرة فقال: إني أرى العرب قد خالطت العجم، وتغيرت ألسنتها، أفتأذن لي أن أصنع ما يقيمون به كلامهم؟ فقال: لا، فقام من عنده، ودخل عليه رجل فقال: أيها الأمير، مات أبانا، وخلف بنون، فقال زياد: مات أبانا وخلف بنون، مه ردوا علي أبا الأسود. فردوه، فقال له: اصنع ما كنت نهيتك عنه، فوضع شيئا.
ثم جاء بعده ميمون الأقران فزاد عليه، ثم جاء بعده عنبسة بن معدان المهري، فزاد عليه ثم جاء بعده عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، وأبو عمرو بن العلاء فزادا عليه، ثم جاء بعدهما الخليل بن أحمد الأزدي، وتتابع الناس واختلف البصريون والكوفيون في بعض ذلك.
فهذا ما بلغني من أمر النحو في أول وضعه، وكذلك العلوم كلها: يوضع منها في مبادي أمرها شيء يسير، ثم يزاد بالتدريج إلى أن يستكمل آخرا.
فإن قيل: أما علم النحو فمسلم إليك أنه تجب معرفته، لكن التصريف لا حاجة إليه، لأن التصريف إنما هو معرفة أصل الكلمة وزيادتها وحذفها وإبدالها، وهذا لا يضر جهله، ولا تنفع معرفته، ولنضرب لذلك مثالا كيف اتفق، فنقول: إذا قال القائل: رأيت سرداحاً، لا يلزمه أن يعرف الألف في هذه الكلمة زائدة هي أم أصلية، لأن العرب لم تنطق بها إلا كذلك، ولو قالت سردحاً، بغير ألف لما جاز لأحد أن يزيد الألف فيها من عنده فيقول سرداحاً، فعلم بهذا أنه إنما ينطق الألفاظ كما سمعت عن العرب، من غير زيادة فيها ولا نقص، وليس يلزم بعد ذلك أن يعلم أصلها ولا زيادتها لأن ذلك أمر خارج تقتضيه صناعة تأليف الكلام.
فالجواب عن ذلك أنا نقول: اعلم أنا لم نجعل معرفة التصريف كمعرفة النحو، لأن الكاتب أوالشاعر إذا كان عارفاً بالمعاني، مختاراً لها قادراً على الألفاظ، مجيدا فيها، ولم يكن عارفاً بعلم النحو، فإنه يفسد ما يصوغه من الكلام ويختل عليه ما يقصده من المعاني، كما أريناك في ذلك المثال المتقدم، وأما التصريف فإنه إذا لم يكن عارفاً به لم تفسد عليه معاني كلامه، وإنما تفسد عليه الأوضاع، وإن كانت المعاني صحيحة، وسيأتي بيان ذلك في تحرير الجواب، فنقول: أما قولك إن التصريف لا حاجة إليه، واستدلالك بما ذكرته من المثال المضروب، فإن ذلك لا يستمر لك الكلام فيه، ألا ترى أنك مثلت كلامك في لفظة سرداح، وقلت: إنه لا يحتاج إلى معرفة الألف زائدة هي أم أصلية لأنها إنما نقلت عن العرب على ما هي عليه من غير زيادة ولا نقص، وهذا لا يطرد إلا فيما هذا سبيله من نقل الألفاظ على هيئتها من غير تصرف فيها بحال، فأما إذا أريد تصغيرها أو جمعها والنسبة إليها فإنه إذا لم يعرف الأصل في حروف الكلمة وزيادتها وحذفها وإبدالها يضل حينئذ عن السبيل، وينشأ من ذلك مجال للعائب والطاعن، ألا ترى أنه إذا قيل للنحوي وكان جاهلا بعلم التصريف كيف تصغير لفظة اضطراب فإنه يقول: ضطيرب، ولا يلام على جهله بذلك لأن الذي تقتضيه صناعة النحو قد أتى به وذلك أن النحاة يقولون: إذا كانت الكلمة على خمسة أحرف وفيها حرف زائد أو لم يكن حذفته نحو قولهم في منطلق: مطيلق، وفي جحمرش: جحيمر، فلفظة منطلق على خمسة أحرف، وفيها حرفان زائدان هما الميم والنون إلا أن الميم زيدت فيها لمعنى، فلذلك لم تحذف وحذفت النون، وأما لفظة جحمرش فخماسية لا زيادة فيها وحذف منها حرف أيضا، ولم يعلم النحوي أن علماء النحو إنما قالوا ذلك مهملا اتكالا منهم على تحقيقه من علم الصرف، لأنه لا يلزمهم أن يقولوا في كتب النحو أكثر مما قالوا، وليس عليهم أن يذكروا في باب من أبواب النحو شيئا من التصريف، لأن كلا من النحو والتصريف علم منفرد برأسه، غير أن أحدهما مرتبط بالآخر ومحتاج إليه.
وإنما قلت: إن النحوي إذا سئل عن تصغير لفظة اضطراب يقول: ضطيرب، لأنه لا يخلو إما أن يحذف من لفظة اضطراب الألف أو الضاد أو الطاء أو الراء أو الباء، وهذه الحروف المذكورة غير الألف ليست من حروف الزيادة، فلا تحذف، بل الأولى أن يحذف الحرف الزائد ويترك الحرف الذي ليس بزائد، فلذلك قلنا: إن النحوي يصغر لفظة اضطراب على ضطيرب، فيحذف الألف التي هي حرف زائد، دون غيرهما مما ليس من حروف الزيادة، وأما أن يعلم أن الطاء في اضطراب مبدلة من تاء، وأنه إذا أريد تصغيرها تعاد إلى الأصل الذي كانت عليه، وهو التاء، فيقال: ضتيرب، فإن هذا لا يعلمه إلا التصريفي، وتكليف النحوي الجاهل بعلم التصريف معرفة ذلك كتكليفه علم ما لا يعلمه، فثبت بما ذكرناه أنه يحتاج إلى علم التصريف، لئلا يغلط في مثل هذا.
ومن العجب أن يقال: إنه لا يحتاج إلى معرفة التصريف، ألم تعلم أن نافع ابن أبي نعيم، وهو من أكبر القراء السبعة قدرا، وأفخمهم شأنا، قال في معايش: معائش، بالهمز، ولم يعلم الأصل في ذلك، فأوخذ عليه، وعيب من أجله ومن جملة ما عابه أبو عثمان المازني، فقال في كتابه في التصريف: إن نافعا لم يدر ما العربية، وكثيرا ما يقع أولو العلم في مثل هذه المواضع، فكيف الجهال الذين لا معرفة لهم بها ولا اطلاع لهم عليها؟ وإذا علم حقيقة الأمر في ذلك لم يغلط فيما يوجب قدحا ولا طعنا، وهذه لفظة معايش لا يجوز همزها بإجماع من علماء العربية، لأن الياء فيها ليست مبدلة من همزة، وإنما الياء التي تبدل من الهمزة في هذا الموضع تكون بعد ألف الجمع المانع من الصرف، ويكون بعدها حرف واحد، ولا تكون عينا، نحو سفائن، وفي هذا الموضع غلط نافع رحمة الله عليه، لأنه لا شك اعتقد أن معيشة بوزن فعيلة وجمع فعيلة هو على فعائل، ولم ينظر إلى أن الأصل في معيشة معيشة على وزن مفعلة، وذلك لأن أصل هذه الكلمة من عاش التي أصلها عيش على وزن فعل، ويلزم مضارع فعل المعتل العين يفعل لتصح الياء، نحو يعيش، ثم تنقل حركة العين إلى الفاء فتصير يعيش، ثم يبني من يعيش مفعول فيقال: معيوش به، كما يقال: مسيور به، ثم يخفف ذلك بحذف الواو، فيقال: معيش به كما يقال مسير به، ثم تؤنث هذه اللفظة فتصير معيشة.
ومع هذا فلا ينبغي لصاحب هذه الصناعة من النظم والنثر أن يهمل من علم العربية ما يخفى عليه بإهماله اللحن الخفي، فإن اللحن الظاهر قد كثرت مفاوضات الناس فيه حتى صار يعلمه غير النحوي، ولا شك أن قلة المبالاة بالأمر واستشعار القدرة عليه توقع صاحبه فيما لا يشعر أنه وقع فيه، فيجهل بما يكون عالما به.
ألا ترى أن أبا نواس كان معدودا في طبقات العلماء مع تقدمه في طبقات الشعراء، وقد غلط فيما لا يغلط مثله فيه، فقال في صفة الخمر:
كأن صغرى وكبرى من فواقعها ** حصباء در على أرض من الذهب

وهذا لا يخفى على مثل أبي نواس، فإنه من ظواهر علم العربية، وليس من غوامضه في شيء لأنه أمر نقلي يحمل ناقله فيه على النقل من غير تصرف، وقول أبي نواس صغرى وكبرى غير جائز، فإن فعلى أفعل لا يجوز حذف الألف واللام منها، وإنما يجوز حذفها من فعلى التي لا أفعل لها، نحو حبلى، إلا أن تكون فعلى أفعل مضافة، وهاهنا قد عريت عن الإضافة وعن الألف واللام، فانظر كيف وقع أبو نواس في مثل هذا الموضع مع قربه وسهولته؟ وقد غلط أبو تمام في قوله:
بالقائم الثامن المستخلف اطأدت ** قواعد الملك ممتدا لها الطول

ألا ترى أنه قال: اطأدت، والصواب اتطدت، لأن التاء تبدل من الواو في موضعين: أحدهما مقيس عليه كهذا الموضع، لأنك إذا بينت افتعل من الوعد قلت: اتعد، ومثله ما ورد في هذا البيت، فإنه من وطد يطد، كما يقال: وعد يعد، فإذا بني منه افتعل قيل: اتطد، ولا يقال اطأد، وأما غير المقيس فقولهم في وجاه: تجاه، وقالوا: تكلان، وأصله الواو، لأنه من وكل يكل، فأبدلت الواو تاء للاستحسان، فهذه الأمثلة قد أشرت إليها ليعلم مكان الفائدة في أمثالها وتتوقى.
على أني لم أجد أحدا من الشعراء المفلقين سلم من مثل ذلك فإما أن يكون لحن لحنا يدل على جهله مواقع الإعراب وإما أن يكون أخطأ في تصريف الكلمة، ولا أعني بالشعراء من هو قريب عهد بزماننا، بل أعني بالشعراء من تقدم زمانه، كالمتنبي ومن كان قبله، كالبحتري، ومن تقدمه، كأبي تمام ومن سبقه، كأبي نواس، والمعصوم من عصمه الله تعالى.
على أن المخطئ في التصريف أندر وقوعا من المخطئ في النحو، لأنه قلما يقع له كلمة يحتاج في استعمالها إلى الإبدال والنقل في حروفها، وأما النحو فإنه يقع الخطأ فيه كثيرا حتى إنه ليشذ في ظاهره في بعض الأحوال، فكيف خافيه؟ كقول أبي نواس في الأمين محمد رحمه الله:
يا خير من كان ومن يكون ** إلا النبي الطاهر الميمون

فرفع في الاستثناء من الموجب، وهذا من ظواهر النحو وليس من خافيه في شيء، وكذلك قال أبو الطيب المتنبي:
أرأيت همة ناقتي في ناقة ** نقلت يدا سرحا وخفا مجمرا

تركت دخان الرمث في أوطانها ** طلبا لقومٍ يوقدون العنبرا

وتكرمت ركباتها عن مبركٍ ** تقعان فيه وليس مسكاً أذفرا

فجمع في حال التثنية، لأن الناقة ليس لها إلا ركبتان، فقال: ركبات، وهذا من أظهر ظواهر النحو وقد خفي على مثل المتنبي.
ومع هذا فينبغي لك أن تعلم أن الجهل بالنحو لا يقدح في فصاحة ولا بلاغة، ولكنه يقدح في الجاهل به نفسه، لأنه رسوم قوم تواضعوا عليه، وهم الناطقون باللغة، فوجب اتباعهم، والدليل على ذلك أن الشاعر لم ينظم شعره وغرضه منه رفع الفاعل ونصب المفعول أو ما جرى مجراهما، وإنما غرضه إيراد المعنى الحسن في اللفظ الحسن المتصفين بصفة الفصاحة والبلاغة، ولهذا لم يكن اللحن قادحا في حسن الكلام، لأنه إذا قيل: جاء زيد راكب، إن لم يكن حسناً إلا بأن يقال: جاء راكباً، بالنصب لكان النحو شرطا في حسن الكلام، وليس كذلك.
فتبين بهذا أنه ليس الغرض من نظم الشعر إقامة إعراب كلماته، وإنما الغرض أمر وراء ذلك، وهكذا يجري الحكم في الخطب والرسائل من الكلام المنثور.
وأما الإدغام فلا حاجة إليه لكاتب، لكن الشاعر ربما احتاج إليه، لأنه قد يضطر في بعض الأحوال إلى إدغام حرف، وإلى فك إدغام، من أجل إقامة الميزان الشعري.